فصل: ذكر استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب إيدغمش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في شهر ربيع الآخر، درس القاضي أبو زكرياء يحيى بن القاسم ابن المفرج، قاضي تكريت، بالمدرسة النظامية ببغداد، استدعي من تكريت إليها.
وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصاً كثيراً، حتى كان الماء يجري ببغداد في نحو خمسة أذرع، وأمر الخليفة أن يكرى دجلة، فجمع الخلق الكثير، وكانوا كلما حفروا شيئاً عاد الرمل فغطاه، وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد، وهذا مل يعهد مثله.
وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج، وكان أبوه قد ولاه الخليفة خوزستان، وجعله هو أمير الحاج، وجعل معه من يدبر الحاج، لأنه كان صبياً.
وفيها، في العشرين من ربيع الآخر، توفي ضياء الدين أبو أحمد عب الوهاب ابن علي بن عبد الله الأمير البغدادي ببغداد، وهو سبط صدر الدين إسمعيل شيخ الشيوخ، وعمره سبع وثمانون سنة وشهور، وكان صوفياً، فقيهاً، محدثاً، سمعنا منه الكثير، رحمه الله؛ وكان من عباد الله الصالحين كثير العبادة والصلاح.
وفيها توفي شيخنا أبو حفص عمر بن محمد بن المعمر بن طبرزد البغدادي، وكان عالي الإسناد. ثم دخلت:

.سنة ثمان وستمائة:

.ذكر استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب إيدغمش:

في هذه السنة، في شعبان قدم إيدغمش، صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، إلى بغداد، هارباً من منكلي.
وسبب ذلك أن إيدغمش كان قد تمكن في البلاد، وعظمك شأنه، وانتشر صيته، وكثر عسكره، حتى إنه حصر صاحبه أبا بكر البهلوان، صاحب هذه البلاد: أذربيجان وأران، كما ذكرناه.
فلما كان الآن خرج عليه مملوك اسمه منكلي، ونازعه في البلاد، وكثر أتباعه، وأطاعه المماليك البهلوانية، فاستولى عليها، وهرب منه شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، فلما وصل إليها أمر الخليفة بالاحتفال له في اللقاء، فخرج الناس كافة، وكان يوم وصوله مشهوداً، ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل، فأكرمت وأنزلت عند زوجها، وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة، فسار عنها، فكان من أمره ما نذكره.

.ذكر نهب الحاج بمنى:

وفي هذه السنة نهب الحاج بمنى؛ وسبب ذلك أن باطنياً وثب على بعض أهل الأمير قتادة، صاحب مكة، فقتله بمنى ظناً منه أنه قتادة، فلما سمع قتادة ذلك جمع الأشراف والعرب والعبيد وأهل مكة، وقصدوا الحاج، ونزلوا عليهم من الجبل، ورموهم بالحجارة والنبل وغير ذلك، وكان أمير الحاج ولد الأمير ياقوت المقدم ذكره، وهو صبي لا يعرف كيف يفعل، فخاف وتحير، وتمكن أمير مكة من نهب الحاج، فنهبوا منهم من كان في الأطراف، وأقاموا على حالهم إلى الليل.
فاضطرب الحاج، وباتوا بأسوإ حال من شدة الخوف من القتل والنهب. فقال بعض الناس لأمير الحاج لينتقل بالحجاج إلى منزلة حجاج الشام، فأمر بالرحيل، فرفعوا أثقالهم على الجمال تؤخذ بأحمالها، والتحق من سلم بحجاج الشام، فاجتمعوا بهم، ثم رحلوا إلى الزاهر، ومنعوا من دخول مكة، ثم أذن لهم في ذلك، فدخلوها وتمموا حجهم وعادوا.
ثم أرسل قتادة ولده وجماعة من أصحابه إلى بغداد، فدخلوها ومعهم السيوف مسلولة والأكفان، فقلبوا العتبة، واعتذروا مما جرى على الحجاج.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أظهر الإسماعيلية، ومقدمهم الجلال بن الصباح، الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها، وأمر بإقامة الصلوات وشرائع الإسلام ببلادهم من خراسان والشام، وأرسل مقدمهم رسلاًِ إلى الخليفة، وغيره من ملوك الإسلام، يخبرهم بذلك، وأرسل والدته إلى الحج، فأكرمت ببغداد إكراماً عظيماً، وكذلك بطريق مكة.
وفيها، سلخ جمادى الآخرة، توفي أبو حامد محمد بن يونس بن ميعة، الفقيه الشافعي، بمدينة الموصل، وكان إماماً فاضلاً، إليه انتهت رياسة الشافعية، لم يكن في زمانه مثله، وكان حسن الأخلاق، كثير التجاوز عن الفقهاء والإحسان إليهم، رحمه الله.
وفي شهر ربع الأول توفي القاضي أبو الفضائل علي بن يوسف بن أحمد بن الآمدي الواسطي، قاضيها، وكان نعم الرجل.
وفي شعبان توفي المعين أبو الفتوح عبد الواحد بن أبي أحمد بن علي الأمين، شيخ الشيوخ ببغداد، وكان موته بجزيرة كاس، مضى إليها رسولاً من الخليفة، وكان من أصدقائنا، وبيننا وبينه مودة متأكدة، وصحبة كثيرة، وكان من عباد الله الصالحين، رحمه الله ورضي عنه؛ وله كتابة حسنة، وشعر جيد، وكان عالماً بالفقه وغيره، ولما توفي رتب أخوه زين الدين عبد الرزاق ابن أبي أحمد، وكان ناظراً على المارستان العضدي، فتركه واقتصر على الرباط.
وفي ذي الحجة توفي محمد بن يوسف بن محمد بن عبيد الله النيسابوري الكاتب الحسن الخط، وكان يؤدي طريقه ابن البواب، وكان فقيهاً، حاسباً، متكلماً.
وتوفي عمر بن مسعود أبي العز أبو القاسم البزاز البغدادي بها، وكان من الصالحين، يجتمع إليه الفقراء كثيراً، ويحسن إليهم.
وتوفي أيضاً أبو سعيد الحسن بن محمد بن الحسن بن حمدون الثعلبي العدوي، وهو ولد مصنف التذكرة، وكان عالماً. ثم دخلت:

.سنة تسع وستمائة:

.ذكر قدوم ابن منكلي بغداد:

في هذه السنة، في المحرم، قدم محمد بن منكلي المستولي على بلاد الجبل إلى بغداد. وسبب ذلكم أن أباه منكلي لما استولى على بلاد الجبل وهرب إيدغمش صاحبها منها إلى بغداد خاف أن يساعده الخليفة، ويرسل معه العساكر، فيعظم الأمر عليه، لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد، فأرسل ولده محمداً ومعه جماعة من العسكر، فيعظم الأمر عليه، لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد، فأرسل ولده محمداً ومعه جماعة من العسكر، فخرج الناس ببغداد على طبقاتهم يلتقونه، وأنزل وأكرم، وبقي ببغداد إلى أن قتل إيدغمش، فخلع عليه وعلى من معه، وأكرموا، وسيرهم إلى أبيه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب مصر والشام، على أمير اسمه أسامة، كان له إقطاع كثير من جملته حصن كوكب من أعمال الأردن بالشام، وأخذ منه حصن كوكب وخربه وعفى أثره، ومن بعده بني حصناً بالقرب من عكا على جبل يسمى الطور، وهو معروف هناك، وشحنه بالرجال والذخائر والسلاح. وفيها توفي الفقيه محمد بن إسمعيل بن أبي الصيف اليمني، فقيه الحرم الشريف بمكة. ثم دخلت:

.سنة عشر وستمائة:

.ذكر قتل إيدغمش:

في هذه السنة، في المحرم قتل إيدغمش الذي كان صاحب همذان، وقد ذكرنا سنة ثمان أنه قدم إلى بغداد وأقام بهتا، فأنعم عليه الخليفة، وشرفه بالخلع، وأعطاه الكوسات وما يحتاج إليه، وسيره إلى همذان، فسار في جمادى الآخرة عن بغداد قاصداً إلى همذان، فوصل إلى بلاد ابن ترجم واجتمعا، وأقام ينتظر وصول عساكر بغداد إليه ليسير معه على قاعدة استقرت بينهم.
وكان الخليفة قد عزل سليمان بن ترجم عن الإمارة على عشيرته من التركمان الإيوانية، وولى أخاه الأصغر، فأرسل سليمان إلى منكلي يعرفه بحال إيدغمش، ومضى هو على وجهه، فأخذوه فقتلوه، وحملوا رأسه إلى منكلي، وتفرق من معه من أصحابه في البلاد لا يلوي أخ على أخيه.
ووصل الخبر بقتله إلى بغداد، فعظم على الخليفة ذلك، وأرسل إلى منكلي ينكر عليه ما فعل، فأجاب جواباً شديداً، وتمكن من البلاد، وقوي أمره، وكثرت جموع عساكره، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله.

.ذكر عدة حوادث:

حج بالناس في هذه السنة أبو فراس بن جعفر بن فراس الحلي، نيابة عن أمير الحاج ياقوت، ومنع ابن ياقوت عن الحج لما جرى للحاج في ولايته.
وفيها، في المحرم، توفي الحكيم المهذب علي بن أحمد بن هبل، الطبيب المشهور، كان أعلم أهل زمانه بالطب، روى الحديث، وكن مقيماً بالموصل، وبها مات، وكان كثير الصدقة، حسن الأخلاق، وله تصنيف حسن في الطب.
وفيه توفي الضيا أحمد بن علي البغدادي، الفقيه الحنبلي، صاحب ابن المني.
وفيه توفي أيضاً أحمد بن مسعود التركستاني، الفقيه الحنفي ببغداد، وهو مدرس مشهد أبي حنيفة.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي معز الدين أبو المعاني سعد بن علي المعروف بابن حديد الذي كان وزير الخليفة الناصر لدين الله، وكان قد ألزم بيته، ولما توفي حمل تابوته إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، بالكوفة، وكان حسن السيرة في وزارته، كثير الخير والنفع للناس. ثم دخلت:

.سنة إحدى عشرة وستمائة:

.ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران والسند:

هذه الحادثة لا أعلم الحقيقة أي سنة كانت، إنما هي إما هذه السنة، أو قبلها، أو بعدها بقليل، لأن الذي أخبر بها كان من أجناد الموصل، وسافر إلى تلك البلاد وأقام بها عدة سنين، وسار مع الأمير أبي بكر الذي فتح كرمان ثم عاد فأخبرني بها على شك من وقتها، وقد حضرها فقال: خوارزم شاه محمد بن تكش كان من جملة أمراء أبيه أمير اسمه أبو بكر، ولقبه تاج الدين.
وكان في ابتداء أمره جمالاً يكري الجمال في الأسفار، ثم جاءته السعادة، فاتصل بخوارزم شاه، وصار سيروان جماله، فرأى منه جلداً وأمانة، فقدمه إلى أن صار من أعيان أمراء عسكره، فولاه مدينة زوزن، وكان عاقلاً ذا رأي، وحزم، وشجاعة، فتدم عند خوارزم شاه تقدماً كثيراً، فوثق به أكثر من جميع أمراء دولته، فقال أبو بكر لخوارزم شاه: إن بلاد كرمان مجاورة لبلدي، فلو أضاف السلطان إلي عسكراً لملكتها في أسرع وقت. فسير معه عسكراً كثيراً فمضى إلى كرمان، وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر، فقاتله، فلم يكن له به قوة، وضعف، فملك أبو بكر بلاده في أسرع وقت، وسار منها إلى نواحي مكران فملكها كلها إلى السند، من حدود كابل، وسار إلى هرمز، مدينة على ساحل بحر مكران، فأطاعه صاحبها، واسمه ملنك، وخطب بها لخوارزم شاه، وحمل عنها مالاً، وخطب له بقلهات، وبعض عمان، لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحب هرمز.
وسبب طاعتهم له، مع بعد الشقة، والبحر يقطع بينهم، أنهم يتقربون إليه بالطاعة ليأمن أصحاب المراكب التي تسير إليهم عنده، فإن هرمز مرسى عظيم، ومجمع للتجار من أقاصي الهند والصين واليمن، وغيرها من البلاد، وكان بين صاحب هرمز وبين صاحب كيش حروب ومغاورات، وكل منهما ينهى أصحاب المراكب أن ترسي ببلد خصمه، وهم كذلك إلى الآن؛ وكان خوارزم شاه يصيف بنواحي سمرقند لأجل التتر أصحاب كشلي خان، لئلا يقصد بلاده؛ وكان سريع السير، إذا قصد سبق خبره إليها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قتل مؤيد الملك الشحري، وكان قد وزر لشهاب الدين الغوري، ولتاج الدين الدز بعده، وكان حسن السيرة، جميل الاعتقاد، محسناً إلى العلماء وأهل الخير وغيرهم، يزورهم ويبرهم، ويحضر الجمعة ماشياً وحده.
وكان سبب قتله أن بعض عسكر الدز كرهوه، وكان كل سنة يتقدم إلى البلاد الحارة بين يدي الدز، أول الشتاء، فسار هذه السنة كعادته، فجاء أربعون نفراً أتراكاً وقالوا له: السلطان يقول لك تحضر جريدة في عشرة نفر لمهم تجدد؛ فسار معهم جريدة في عشرة مماليك، فلما وصلوا إلى نهوند، بالقرب من ماء السند، قتلوه وهربوا، ثم إنهم ظفر بهم خوارزم شاه محمد فقتلهم.
وفيها، في رجب، توفي الركن أبو منصور عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجليلي، البغدادي، وكان قد ولي عدة ولايات، وكان يتهم بمذهب الفلاسفة، حتى إنه رأى أبوه يوماً عليه قميصاً بخارياً، فقال: ما هذا القميص؟ فقال: بخاري؛ فقال أبوه: هذا عجب! ما زلنا نسمع: مسلم والبخاري، وأما كافر والبخاري فما سمعنا.
وأخذت كتبه قبل موته بعدة سنين، وأظهرت في ملأ من الناس، ورؤي فيها من تبخير النجوم ومخاطبة زحل بالإلهية، وغير ذلك من الكفريات، ثم أحرقت بباب العامة، وحبس، ثم أفرج عنه بشفاعة أبيه، واستعمل بعد ذلك.
وفيها أيضاً توفي أبو العباس أحمد بن هبة الله بن العلاء المعروف بابن الزاهد ببغداد، وكان عالماً بالنحو واللغة.
وفي شعبان منها توفي أبو المظفر محمد بن علي بن البل اللوري الواعظ، ودفن برباط على نهر عيسى، ومولده سنة عشر وخمسمائة.
وفي شوال منها توفي عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن محمود بن الأخضر، وكان من فضلاء المحدثين، وله سبع وثمانون سنة. ثم دخلت:

.سنة اثنتي عشرة وستمائة:

.ذكر قتل منكلي وولاية أغملش ما كان بيده من الممالك:

في هذه السنة في جمادى الأولى، انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، ومضى هاباً، فقتل.
وسبب ذلك أنه كان قد ملك البلاد، كما ذكرناه، وقتل إيدغمش فأرسل إليه من الديوان الخليفي رسول ينكر ذلك عليه، وكان قد أوحش الأمير أوزبك ابن البهلوان، صاحب أذربيجان، وهو صاحبه ومخدومه، فأرسل إليه يحرضه على منكلي ويعده النصرة، وأرسل أيضاً إلى جلال الدين الإسماعيلي، صاحب قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم، الموت وغيرها، يأمره بمساعدة أوزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفة بعض البلاد، ولأوزبك بعضها، ويعطي جلال الدين بعضها، فلما استقرت القواعد بينهم على ذلك جهز الخليفة عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم مملوكه مظفر الدين سنقر، الملقب بوجه السبع، وأرسل إلى مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك، وهو إذ ذاك صاحب إربل وشهرزور وأعمالها، يأمره أن يحضر بعساكره، ويكون مقدم العساكر جميعها، وإليه المرجع في الحرب.
فحضر، وحضر معه عسكر الموصل وديار الجزيرة، وعسكر حلب، فاجتمعت عساكر كثيرة وساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكر كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلق بالجبال، وتبعوه، فنزلوا بسفح جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج، وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعه ومن معهم، فلو أقام منكلي بموضعه لم يمكنهم المقام عليه أكثر من عشرة أيام، لكنه طمع فنزل ببعض عسكره من الجبل مقابل الأمير أوزبك، فحملوا عليه، فلم يثبت أوزبك، ومضى منهزماً، فعاد أصحاب منكلي وصعدوا الجبل، وعاد أوزبك إلى خيامه، فطمع منكلي حينئذ، ونزل من الغد في جميع عسكره، واصطفت العساكر للحرب، واقتتلوا أشد قتال يكون، فانهزم منكلي وصعد الجبل، فلو أقام بمكانه لم يقدر أحد على الصعود إليه، وكان قصاراهم العود عنه، لكنه اتخذ الليل جملاً، وفارق موضعه ومضى منهزماً، فتبعه نفر يسير ن عسكره، وفارقه الباقون وتفرقوا أيدي سبا.
واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد، فأعطى جلال الدين، ملك الإسماعيلية، من البلاد ما كان استقر له، وأخذ الباقي أوزبك، فسلمه إلى أغلمش مملوك أخيه، وكان قد توجه إلى خوارزم شاه علاء الدين محمد، وبقي عنده، ثم عاد عنه، وشهد الحرب وأبلى فيها، فولاه أوزبك البلاد، وعاد كل طائفة من العسكر إلى بلادهم.
وأما منكلي فإنه مضى منهزماً إلى مدينة ساوة، وبها شحنة هو صديق له. فأرسل إليه يستأذنه في الدخول إلى البلد، فأذن له، وخلج إليه فلقيه، وقبل الأرض بين يديه، وأدخله البلد، وأنزله في داره، ثم أخذ سلاحه، وأراد أن يقيده ويرسله إلى أغلمش، فسأله أن يقتله هو ولا يرسله، فقتله، وأرسل رأسه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد، وكان يوم دخولها يوماً مشهوداً إلا أنه لم تتم المسرة للخليفة بذلك، فإنه وصل ومات ولده في تلك الحال، فأعيد ودفن.

.ذكر وفاة ابن الخليفة:

في هذه السنة في العشرين من ذي القعدة، توفي ولد الخليفة، وهو الأصغر، وكان يلقب الملك المعظم، واسمه أبو الحسن لعي، وكان أحب ولدي الخليفة إليه، وقد رشحه لولاية العهد بهده، وعزل ولده الأكبر عن ولاية العهد واطرحه لأجل هذا الولد.
وكان رحمه الله، كريماً كثير الصدقة والمعروف، حسن السيرة، محبوباً إلى الخاص والعام، وكان سبب موته أنه أصابه إسهال فتوفي، وحزن عليه الخليفة حزناً لم يسمع بمثله، حتى إنه أرسل إلى أصحاب الأطراف ينهاهم عن إنفاذ رسول إليه يعزيه بولده، ولم يقرأ كتاباً ولا سمع رسالة، وانقطع، وخلا بهمومه وأحزانه، ورؤي عليه من الحزن والجزع ما لم يسمع بمثله.
ولما توفي أخرج نهاراً، ومشى جميع الناس بين يدي تابوته إلى تربة جدته عند قبر معروف الكرخي، فدفن عندها، ولما أدخل التابوت أغلقت الأبواب، وسمع الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوت الخليفة.
وأما العامة ببغداد فإنهم وجدوا عليه وجداً شديداً، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلاً ونهاراً، ولم يبق ببغداد محلة إلا وفيها النوح، ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن، وما سمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان وحديثه.
وكان موته وقت وصول رأس منكلي إلى بغداد، فإن الموكب أمر بالخروج إلى لقاء الرأس، فخرج الناس كافة، فلما دخلوا بالرأس إلى رأس درب حبيب وقع الصوت بموت ابن الخليفة، فأعيد الرأس، وهذا دأب الدنيا، لا يصفو أبداً فرحها من ترح، وقد تخلص مصائبها من شائبة الفرح.

.ذكر ملك خوارزم شاه غزنة وأعمالها:

في هذه السنة، في شعبان، ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها.
وسبب ذلك أن خوارزم شاه لما استولى على عامة خراسان وملك باميان وغيرها، أرسل إلى تاج الدين، صاحب غزنة، وقد تقدمت أخباره حتى ملكها، يطلب منه أن يخطب له، ويضرب السكة باسمه، ويرسل إليه فيلاً واحداً ليصالحه ويقر بيده غزنة، ولا يعارضه فيها، فأحضر الأمراء وأعيان دولته واستشارهم.
وكان فيهم أكبر أمير اسمه قتلغ تكين، وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضاً، وإليه الحكم في دولة الدز، وهو النائب عنه بغزنة، فقال: أرى أن تخطب له، وتعطيه ما طلب، وتستريح من الحرب والقتال، وليس لنا بهذا السلطان قوة.
فقال الجماعة مثل قوله، فأجاب إلى ما طلب منه، وخطب لخوارزم شاه، وضرب السكة باسمه، وأرسل إليه فيلاً، وأعاد رسوله إليه، ومضى إلى الصيد.
فأرسل قتلغ تكين، والي غزنة، إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة، فسار مجداً، وسبق خبره، فسلم إليه قتلغ تكين غزنة وقلعتها، فلما دخل إليها قتل من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك، وفوصل الخبر إلى الدز بذلك فقال: ما فعل قتلغ تكين، وكيف ملك القلعة مع وجوده فيها؟ فقيل: هو الذي أحضره وسلم إليه؛ فمضى هارباً هو ومن معه إلى لهاوور، وأقام خوارزم شاه بغزنة، فلما تمكن منها أحضر قتلغ تكين فقال له: كيف حالك مع الدز؟ وكان عالماً به، وإنما أراد أن تكون له الحجة عليه. فقال: كلانا مماليك شهاب الدين، ولم يكن الدز يقيم بغزنة إلا أربعة أشهر الصيف، وأنا الحكم فيها، والمرجع إلي في كل الأمور.
فقال له خوارزم شاه: إذا كنت لا ترعى لرفيقك ومن أحسن إليك صحبته وإحسانه، فكيف يكون حالي أنا معك، وما الذي تصنع مع ولدي إذا تركته عندك؟ فقبض عليه، وأخذ منه أموالاً جمة حملها ثلاثون دابة من أصناف الأموال والأمتعة، وأحضر أربع مائة مملوك، فلما أخذ ماله قتله وترك ولده جلال الدين بغزنة مع جماعة من عسكره وأمرائه وقيل إن ملك خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة وستمائة.

.ذكر استيلاء الدز على لهاوور وقتله:

لما هرب الدز من غزنة إلى لهاوور لقيه صاحبها ناصر الدين قباجة، وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضاً، وله من البلاد لهاوور، وملتان، وأوجه، وديبل، وغير ذلك، إلى ساحل البحر، ومعه نحو خمسة عشر ألف فارس؛ وكان قد بقي مع الدز نحو ألف وخمسمائة فارس، فوقع بينهما مصاف، واقتتلوا، فانهزمت ميمنة الدز وميسرته، وأخذت الفيلة التي معه، ولم يبق له غير فيلين معه في القلب.
فقال الفيال: إذا أخاطر بسعادتك؛ وأمر أحد الفيلين أن يحمل على العلم الذي لقباجة يأخذه، وأمر الفيل الآخر الذي له أيضاً أن يأخذ الجتر الذي له، فأخذه أيضاً، والفيلة المعلمة تفهم ما يقال لها؛ هذا رأيناه، فحمل الفيلان، وحمل معهما الدز فيمن بقي عنده من العسكر، وكشف رأسه، وقال بالعجمية ما معناه: إما ملك، وإما هلك! واختلط الناس بعضهم ببعض، وفعل الفيلان ما أمرهما الفيال من أخذ العلم والجتر، فانهزم قباجة وعسكره، وملك الدز مدينة لهاوور.
ثم سار إلى بلاد الهند ليملك مدينة دهلة وغيرها مما بيد المسلمين، وكان صاحب دهلة أمير اسمه الترمش، ولقبه شمس الدين، وهو من مماليك قطب الدين أيبك، مملوك شهاب الدين أيضاً، وكان قد ملك الهند بعد سيده، فلما سمع به الترمش سار إليه في عساكره كلها، فلقيه عند مدينة سماتا، فاقتتلوا، فانهزم الدز وعسكره، وأخذ وقتل.
وكان الدز محمود السيرة في ولايته، كثير العدل والإحسان إلى الرعية، لا سيما التجار والغرباء، ومن محاسن أعماله أنه كان له أولاد، ولهم معلم يعلمهم، فضرب المعلم أحدهم فمات، فاحضره الدز وقال له: يا مسكين! ما حملك على هذا؟ فقال: والله ما أردت إلا تأديبه. فاتفق أن مات. فقال: صدقت؛ وأعطاه نفقة، وقال له: تغيب، فإن أمه لا تقدر على الصبر، فربما أهلكتك، ولا أقدر أمنع عنك. فلما سمعت أم الصبي بموته طلبت الأستاذ لتقتله، فلم تجده، فسلم، وكان هذا من أحسن ما يحكى عن أحد من الناس.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان الواسطي النحوي، الضرير، كان نحريراً فاضلاً، قرأ على الكمال عبد الرحمن بن الأنباري وعلى غيره، وكان حنبلياً، فصار حنفياً، ثم صار شافعياً، فقال فيه أبو البركات بن زيد التكريتي:
ألا مبلغاً عني الوجيه رسالة ** وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان من بعد حنبل ** وفارقته إذ غورتك المآكل

وما اخترت رأي الشافعي تديناً ** ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر ** إلى مالك، فافطن لما أنا قاتل ثم دخلت: